تَفْسِيرُ سُورَةِ العادِياتِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها
الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
واعْتَنُوا بِكِتابِ رَبِّكُمْ، تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا وَعَمَلًا. فإِنَّه شِفاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ. مَنْ قَرَأَهُ وَعَمِلَ بِما فِيهِ، فَإِنَّه لا يَضِلُّ وَلا
يَشْقَى.
وإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما جاءَ في كِتابِ
اللهِ، بَيانَ حَقِيقَةِ الإِنْسانِ، وَبَيانَ مَدَى اهْتِماماتِهِ بِالدُّنْيا،
والتَّرْكِيزَ عَلى تَذْكِيرِهِ بِـمَآلِهِ والحِكْمَةِ التي مِنْ أَجْلِها خُلِقَ،
كَيْ يَعْتَبِرَ وَيَتَّعِظَ ويُصْلِحَ حالَه، وَيُصَحِّحَ مَسارَهُ.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ ذلكَ
كُلَّهُ في سُورَةٍ قَصِيرَةٍ عَظِيمَةٍ، فيها مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِمَنْ
تَدَبَّرَ وكانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ سَلِيمٌ. قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ *
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَـخَبِيرٌ }.
فَأقْسَمَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى
بِالخَيْلِ، لِمَا فِيهَا مِنْ آياتِ اللهِ الباهِرَةِ،
فَقال: { وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا } أَيْ عَدْوًا بَلِيغًا قَوِيًا، يَصْدُرُ عَنْهُ الضَّبْحُ،
وَهُوَ صَوْتُ نَفَسِهَا فِي صُدْرِها عِنْدَ اشْتِدَادِ العَدْوِ.
{ فَالْمُورِيَاتِ
قَدْحًا } أَيْ بَحَوَافِرِها، كَأَنَّهَا تَقْدَحُ النارَ مِنْ
صَلَابَةِ مَا يَطَأْنَ عَلَيْهِ مِنْ الحِجارَةِ بِحَوَافِرِهِنَّ وَقُوَّةِ
عَدْوِهِنَّ.
{ فَالْمُغِيرَاتِ
صُبْحًا } أَيْ التي تُغِيرُ عَلَى الأَعْداءِ وَتَهْجِمُ عَلَيْهِم فِي
الصَّباحِ، وَهَذا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي الإغارَةِ عَلَى العَدُوِّ، أَنْ
يَكُونَ فِي الصَّباحِ، وَقْتَ الغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ، وَلِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ
مُتَّسَعٌ فِي الوَقْتِ.
{ فَأَثَرْنَ
بِهِ نَقْعًا } والنَّقْعُ هُوَ الغُبارُ، أَيْ: أَنَّهُنَّ بِسَبَبِ
شِدَّةِ العَدْوِ والْكَرِّ والْفَرِّ، يُثِرْنَ الغُبَارَ.
{ فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعًا } أَيْ: تَوَسَّطْنَ بِهَذا العَدْوِ الشَّدِيدِ جُمُوعَ
الأَعْداءِ، وَوَسْطَ ساحَةِ المَعْرَكَةِ.
وَهذا كُلُّهُ قَسَمٌ مِنْ اللهِ بِالخَيْلِ
التي هَذَا وَصْفُها.
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، هُوَ الإنسانُ،
وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ
لَكَنُودٌ } أَيْ: كَفُورٌ يَنْسى نِعَمَ اللهِ، وَمَنُوعٌ لِلْخَيْرِ الذي
عَلَيْهِ لِرَبِّهِ.
وَهَذِهِ هِيَ
طَبِيعَةُ الإنسانِ وَجِبِلَّتُهُ، إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللهُ وَخَرَجَ عَنْ هَذَا
الوَصْفِ، واعْتَرَفَ بِفَقْرِهِ إلى اللهِ وَتَقْصِيرِهِ.
{ وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أيْ: إِنَّ الإنسانَ عَلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ
نَفْسِهِ مِن الْمَنْعِ والكَنَدِ لَشاهِدٌ بِذلِكَ، لَا يَجْحَدُهُ وَلَا
يُنْكِرُهُ، لِأَنَّ ذلكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ. وَكذلكَ فَإِنَّ اللهَ شَهِيدٌ
عَلَى أَنَّ الإنْسانُ هذِهِ حالُهُ. وَهذا وَعِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، لِمَنْ
هُوَ لِرَبِّهِ كَنُودٌ، بِأَنَّ اللهَ عَلَيْهِ شَهِيدٌ.
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدُ }، والْمُرادُ بِالخَيْرِ: الْمَالُ. أيْ: أَنَّ
الإنسانَ كَثِيرُ الحُبِّ لِلْمالِ. وَحُبُّهُ لِذلِكَ، هُوَ الذي حَمَلَهُ عَلَى
تَرْكِ الحُقُوقِ الوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ عَلَى
حَقِّ رَبِّهِ، لِأَنَّهُ آثَرَ الحَياةَ الدنيا عَلَى الآخِرَةِ، إلَّا
مَنْ رَحِمَ اللهُ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ: لَقَدْ خَتَمَ اللهُ هذِهِ
السُّورَةَ بِالحَثِّ عَلَى الخَوْفِ مِن يَوْمِ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَهُوَ
يَوْمُ الوَعِيدِ فَقال: { أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا
بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور } أي: أَفَلَا يَدْرِي هذا الْمُغْتَرُّ، إِذا
أَخْرَجَ اللهُ الأمْواتَ مِنْ قُبُورِهِمْ، لِحَشْرِهِمْ. لِأَنَّ الجَمِيعَ
سَتَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُمْ فَيَخْرُجُونَ مِنْها سِراعًا كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
مُنْتَشِرٌ، فَلَا تَغْفَلُوا عَنْ ذلكَ يَا عِبادَ اللهِ.
ثُمَّ قال تَعالَى: { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } أَيْ: ظَهَرَ
وَبَانَ مَا فِيهَا، مِنْ كَمَائِنِ الخَيْرِ والشَّرِّ، فَصَارَ السِّرُّ
عَلَانِيَةً، والباطِنُ ظاهِرًا، وَبَانَ عَلَى وُجُوهِ الخَلْقِ نَتِيجَةُ
أَعْمالِهِمْ.
فَهَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ، مِنْ أَعْظَمِ ما يَعِظُ الْمُؤْمِنَ في هذا
البابِ العَظِيمِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ما يَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدقِ، والإخْلاصِ،
وإصْلاحِ السَّرِيرَةِ، وسَلامَةِ القَلْبِ مِنْ العَقائِدِ الفاسِدَةِ،
والشَّهَواتِ الْمُمْرِضَةِ لِلْقَلْبِ، والكِبْرِ والحَسَدِ والضَّغِينَةِ،
وَخائِنَةِ الأَعْيُنِ، لِأَنَّ الإِنْسانَ مَهْمَا عَمِلَ وَتَظاهَرَ
بِجَوارِحِهِ، فَسَتَنْكَشِفُ حَالُهُ عَلَى حَقِيقَتِها يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ، وَيُـحَصَّلُ ما في الصُّدُورِ.
ثُمَّ قالَ تَعَالَى: { إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ } أيْ
مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمالِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْها،
وَمُجازِيهِمْ عَلَيْها. وَخَصَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ، مَعَ أَنَّه خَبِيرٌ
بِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّ الْمُرادَ بِذلِكَ التَّخْصِيصِ، الجَزاءُ
بِالأَعْمالِ النَّاشِئِ عَنْ عِلْمِ اللهِ واطِّلَاعِهِ.
اللَّهُمَّ
ارْزُقْنا تَقْواكَ، واجْعَلْنا نَخْشاكَ كَأَنَّنا نَراكَ، وأَصْلِحَ لَنا
سِرَّنا وَعَلَانِيَتَنا، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمُستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك
الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ
مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا
قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ
الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم
بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ
النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم
وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.
اللَّهمَّ أنتَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا أنتَ الغَنيُّ ونحنُ
الفقراءُ أنزِلْ علينا الغَيْثَ واجعلْ ما أَنزلتَ لَنا قُوَّةً وبَلاغًا إِلى حِينٍ،
اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا طَبَقَاً سَحَّاً
مُجَلِّلاً ، عَامَّاً نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجَلاً غَيْرَ آجِلٍ، اللَّهُمَّ
أَنزلْ عَليْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكَـاً تُـحْيِي بِهِ الْبِلَادَ،
وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادُ، وتَـجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ وَالْبَادِ،
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهمَّ لا
تَرُدَنا خَائِبِين. اللهُمَّ صَلِّ وَسَلّمْ
عَلَى نَبِيِّـنَا مُحَمَّد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119