ثَمَراتُ الإيمانِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ: اتقُوا اللهَ تعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ الإيمانَ لَيْسَ
بِالتَحَلِّي وَلَا بِالتَمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي القَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ
الأَعْمالُ. فَالإيمانُ: عَقِيدَةٌ فِي القَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسانِ وَعَمَلٌ
بِالجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقَدْ
دَلَّتْ نُصُوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ذلِكَ، وَمَا ذاكَ إلَّا لِبَيانِ
أَنَّ الإيمانَ الذي فِي القَلْبِ لَابُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ عَلَى أقوالِ العَبْدِ
وأفعالِهِ.
وَمِن الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَ السَّلَفِ أَنَّ الأعمالَ الصالِحَةَ
داخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الإيمانِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صالِحًا. قال تعالى: ( وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
جَنَّاتُ النَّعِيمِ ) وقال تعالى: ( إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
)، وَغَيْرُ ذلِكَ مِن الآياتِ.
وَلِلإيمانِ
يِا عِبادَ اللهِ ثَمَرَاتٌ:
أَوَّلُها: الفَوْزُ
بِالجَنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثانيةُ:
الفَوْزُ بِمَحَبَّةِ اللهِ، وَمَعِيَّتِهِ،
وَتَوْفِيقِهِ وَتَأْيِيدِهِ.
الثالثةُ:
اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤمنينَ والدُّعاءُ
لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ مَعَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ
وَذِرِّيَّاتِهِمْ، قال تَعَالَى: ( الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
الرابعةُ:
أَنَّ الْمُؤمِنَ لَا يُحْرَمُ مِنْ أَهْلِهِ
وَذُرِّيَّتِهِ إذا كانُوا مَعَهُ عَلَى الإيمانِ، بَلْ يُلْحَقُونَ بِهِ فِي
الجَنَّةِ، قالَ تَعالَى: ( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ
بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ). وَهَذِهِ الآيَةُ وَغَيْرُها مِن الآياتِ تَحْمِلُ
العَبْدَ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَمُّهُ الأَكْبَرُ الاجْتِماعَ مَعَ أَهْلِهِ
وَأَوْلَادِهِ وَأَحِبَّتِهِ فِي الجَنَّةِ، لِأَنَّ الدنيا زَائِلَةٌ،
وَالفُرْقَةُ بِالْمَوْتِ حاصِلَةٌ، فَلَابُدَّ أَنْ يُفارِقَ العَبْدُ
وَالِدَيْهِ، وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلادَهُ، وَأَصْفِياءَهُ، لَكِنَّهُ فِرَاقٌ
مُؤَقَّتٌ يَعْقُبُهُ الاجْتِماعُ فِي الجَنَّةِ. وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ. لِأَنَّ الخَسارَةَ
الحَقِيقِيَّةَ، هِيَ أَنْ يَخْسَرَ العَبْدُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ فِي الآخِرَةِ،
كَمَا قالَ تَعالَى: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ).
الخامسةُ:
الرِّضا بِالقَضاءِ، وَتَحَمُّلُ الْمَصائِبِ،
وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَعَدَمُ الجَزَعِ والسَّخَطِ. قال تعالى: ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ). قال
عَلْقَمَةُ: هُوَ العَبْدُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّها مِنْ عِنْدِ
اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَكَاَن مِنْ دُعاءِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: (
وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا
مَصائِبَ الدُّنْيا ).
السادسةُ:
الحَياةُ الطَّيِّبَةُ والسَّعادةُ والطُّمَأْنِينَةُ
وَرَاحَةُ البالِ، فَأَكْمَلُ الناسِ إيمانًا أَكْثَرُهُمْ سَعَادَةً
وَطُمَأْنِينَةً وَرَاحَةً. وَأَضْعَفُهُمْ إيمانًا أَقَلُّهُمْ سَعَادَةً
وَطُمَأْنِينَةً وَراحَةً، قال تعالى: ( مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً ).
السابعةُ:
أَنَّ الإيمانَ إذا كَمُلَ فِي قَلْبِ العَبْدِ،
هانَتْ عَلَيْهِ الدنيا، وَأَيْقَنَ أَنَّها مَتَاعُ الغُرُورِ، وَأَنَّها لَا
تَسْتَحِقُّ أَنْ يَحْمِلَ هَمَّهَا، وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ أَكْمَلَ الناسِ
إيمانًا أَبْعَدُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ فِي الدنيا.
وَمَنْ
تَأَمَّلَ حالَ النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتَهُ عَرَفَ ذَلِكَ،
وَكَذَلِكَ مَنْ تَأَمَّلَ حالَ الصَّحابَةِ عَرَفَ ذَلِكَ، قَالَ الحَسَنُ
البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي وَصْفِ الصَّحابَةِ: " أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَا يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِن
الدُّنْيَا أَقْبَلَ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْها أَدْبَرَ
". فَهَنِيئًا لِمَنْ كانَتْ هَذِهِ حالُهُ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ
يَجْعَلَنَا كَذَلِكَ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ
اللهِ: وَمِنْ ثَمَراتِ الإيمانِ، التَّمْكِينُ فِي الأرضِ، والنَّصْرُ عَلَى العَدُوِ،
قال تَعالَى: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ )، وقال تعالى: ( وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). وقال
تعالى: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ
آمَنُوْا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ).
فَالتَمْكِينُ فِي الأَرْضِ، وَظُهُورُ هذا
الدِّينِ، والنَّصْرُ عَلَى أعْداءِ الإسْلامِ، لا يَكُونُ إلَّا بِالإيمانِ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَى مَا كانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ
الأُمَّةِ. قَالَ الإمامُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: ( لَنْ
يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا ).
اللهمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنا،
وَكَرِّهْ إلَيْنا الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، واجْعَلْنا مِن الراشِدِين، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ
أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا
يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ
الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن الْمُستَضعفينَ مِن الْمؤمنين في
كُلِّ مكانٍ، اللهُمَّ احِقن دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
احفظْ بَلادَنا مِن كيدِ الكائدينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ
أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، وَاجْعلهم مِن أَنصارِ دِينِك، وارْزقْهُم
البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119