|
طَلَبُ الرزقِ الحلالِ والْمحافظةُ على المالِ العام
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أَيُّها الناسُ: اتقُوا اللهَ تعالى
وراقِبُوه، واطُلُبُوا الرِّزْقَ مِن عِنْدِه واعبُدُوه واشْكُرُوا له، لعلكم
تُفْلِحُون. واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الحَلالِ
فقال: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا )، وأَخْبَرَ اللهُ تعالى أَنَّ
الرزْقَ الحَلالَ هو مِن فَضْلِ اللهِ، قال تعالى: ( فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ). فإذا كان اللهُ
تعالى أَمَرَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الطَّيِّبِ الحلالِ، وأَخْبَرَ أَنَه فَضْلٌ
مِنْه على عِبادِه، فهذا دليلٌ على أَنَّه يُحِبُّه، وإِذا كان يُحِبُّه، فهذا
دليلٌ عَلَى أَنَّه عِبادَه. نَعَم: طَلَبُ
الرِّزقِ الطَّيِّبِ الحَلالِ عِبادَةٌ، إذا كان عَوْنًا لِلْعَبْدِ عَلى
الطاعَةِ، ولَمْ يُشْغِل عَن العِبادَةِ ورِعايَةِ الأُسْرَةِ، وَيَسْتَغِنِي بِهِ
هُو ومَن يَعُولُ عَنِ الناسِ والحاجَةِ إِلَيْهِم. وإِذا كان طَلَبُ الرِّزْقِ
بِهِذِه الصُّورَةِ عِبادَةً مَحْبُوبَةً إلى اللهِ، فَإِنَّ تَرْكَهُ والعَيْشَ
عالَةً على الناسِ إِثْمٌ يُحاسَبُ عَلَيْهِ المَرْءُ. فابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ
الرِّزْقَ، وإِياكُم والعَجْزَ والكَسَلَ فَإِنَّه مَذْمُومٌ. واحْمَدُوا اللهَ
الذي نَوَّعَ أَبْوابَ الْمَكاسِبِ، ولَمْ يَحْصُرْها في بابٍ واحِد. واعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ، خُصُوصًا الشَّبابَ:
أَنَّ العَبْدَ إِذا اتَّقَى اللهَ وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وبَذَلَ أَسْبابَ
الرِّزْقِ المُباحِ، فَإِنَّه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْشَلَ في مَسْعاه، لِأَنَّ الذي
أَمَرَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ هو اللهُ، ويَسْتَحِيلُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ بِشَيْءٍ
ولا يُهَيِّئُ أَسْبابَه، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مَنْ يَتَّقِيهِ ويَتَوَكَّلُ
عَلَيْه، أَنْ يَكْفِيَه ويَرْزُقَه مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَوَعْدُ اللهِ
يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَخَلَّفَ، قال تعالى: ( وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )، فافْرَحُوا أَيُّها المؤمنون، وافْرَحُوا أَيُّها الشبابُ،
وَثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ وابْذُلُوا الأَسبابَ وأَبْشِرُوا، ولا تَلْتَفِتُوا إِلى
الْمُحْبِطاتِ التي تَسْمَعُونَها مِن الكُسالَى أَو الْمُثَبِّطِين والْمُتَشائِمِين،
أَو مَن يَتَكَلَّمُون عَن البَطالَةِ، فَإنَّ البَطالَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكونَ
لها مَكانٌ مَعْ العَبْدِ التَّقِيِّ الجادِّ الْمُتَوَكِّلِ على الله، قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لَوْ أَنَّكُم
تَتَوَكَّلُون على اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كَما يَرْزُقُ
الطَّيْرَ: تَغْدُو خِماصًا وتَرُوحُ بِطانا ). فأخْبَرَ أَنَّ هذه
الطُّيُورَ لا تَقْبَعُ في أَوكارِها أَو عُشِّها تَنْتَظِرُ رِزْقَها، بَل
تَخْرُجُ جائِعَةً ضَامِرَةَ البُطُون، وهذا هو مَعْنى "خِماصا"، وتَعُودُ آخِرَ النهارِ مُمْتَلِئَةَ
البُطُون، وهذا هو مَعْنى "بِطاناً". وهذا الحديثُ يَكْشِفُ عَوارَ
مَواضِيعِ البَطالَةِ على حَقِيقَتِها، وأَنَّه لَيْسَ هُناكَ بَطالَةٌ مَعَ
التَّقوى والتَّوَكُّلِ وبَذْلِ الأسباب. واعْلَمْ
أَيُّها المًسْلِم أَنَّكَ إذا حَصَرْتَ بابَ الرِّزْقِ على الوَظِيفَةِ، فَإِنَّ
هذا التَصَوُّرَ عَلامَةٌ على العَجْزِ والكَسَلِ وضَعْفِ التَوَكُّلِ.
لِأَنَّ وُجُوهَ طَلَبِ الرِّزْقِ كَثِيرَةٌ ومُتَنَوِّعَةٌ وللهِ الحَمْدُ،
وبَعْضُها أَطْيَبُ مِن بَعْضٍ. فَأَطْيَبُها ما
كانَ مِن عَمَلِ اليَدِ، قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ
مِن عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاودَ عليه السلامُ كان يَأْكُلُ مِن
عَمَلِ يَدِه )، مَعَ العِلْمِ أَنَّ اللهَ جَمَعَ له بَيْن الْمُلْكِ
والنُّبُوَّةِ، ومَعَ ذلكَ بَحَثَ عن أَطْيَبِ الْمَكاسِبِ، فَلَمْ يَأْكُلْ إلا
مِن كَدِّهِ، فَكانَ يَصْنُعُ الدُّرُوعَ ويَبِيعُها ويَأْكُلُ مِن ثَمَنِها. وهذه
مَوْعِظَةٌ لَنا، ومَوعِظَةٌ لِشبابِنا، ومَوعِظَةٌ لِأَصْحابِ الشهاداتِ،
عِنْدَما نَعْلَمُ بِأَنَّ عَبْدًا مِن عِبادِ اللهِ، آتاه اللهُ الْمُلْكَ
والنُّبُوَّةَ في آنٍ واحِدٍ، ومع ذلكَ يأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِه. وكذلك التَجارةُ
النَّزيهَةُ مِن أَطْيَبِ الْمَكاسِبِ، وتَعَلُّمُ الحِرَفِ كالنِّجارةِ
والحِدادَةِ والطِّبِّ والهَنْدسةِ، والتَّكَسُّبُ مِن ورائِها، وكذلك إذا يَسَّرَ
اللهُ لِلعَبْدِ وَظِيفَةً وأَدَّى أَمانَةَ العَمَلِ فيها، لكنها لَيْسَتْ
بِأَطْيَبَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُه. وَكُلُّ هذه مِن أنواعِ الْمكاسِبِ وللهِ
الحَمْدِ. الْمُهِمُّ أَنْ تَسْعَى مُتَوَكِّلا على الله، ومُتَسَلِّحًا
بِالتَقْوى. مَعَ كَثْرَةِ الدُّعاءِ والاستِغْفارِ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ: عِبادَ اللهِ: اتَقُوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ في الحَلالِ غُنْيَةً عن الحرام، فإِن الكَسْبَ الحرامَ مُفْسِدٌ
للدِّينِ والخُلُقِ، وضَرَرُه عامٌّ على الأفرادِ والْمُجْتَمعاتِ، وَيَدْخُلُ في ذلكَ: الإِخْلالُ بِالوظيفَةِ
وعَدَمُ أَداءِ الأَمانَةِ فيها. أَيًّا كانت رُتْبَتُها ومَرْتَبَتُها. ثم
اعْلَمُوا يا عِبادَ الله: أَنَّ الْمَالَ
العامَّ أَخْطَرُ مِن الْمَالِ الخاصِّ، وحُرْمَتُهُ أَشَدُّ، لِأَنَّه مالُ الْمُسْلِمِين،
فالتَعَدِّي عَليه هو تَعَدٍّ على أَمْوالِ الْمُسْلِمين، ولَيْسَ تَعَدٍّ على
مالِ شَخْصٍ بَعَيْنِه، ولذلك تَكُونُ الوَرْطَةُ فيه أَشَدَّ. قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ
مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا
يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم
فيمَن أخَذَ هدِيَّةً أُهْدِيَت له فَأخَذَها لِنَفْسِهِ: ( هَلَّا جَلَسِ في بَيْتِ أُمِّهِ لَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى
له؟ ). مِمَّا يَدُلُ على أَن الْمُوَظَّفَ لا يَجوزُ له أَنْ يَسْتَغِلَّ
الوَظِيفَةَ لِنَفْعِهِ الخاصِّ، فإنْ فَعَلَ فَهِيَ غُلُولٌ يأتِي به يومَ القِيَامِة.
فالواجِبُ
على الْمُوَظَّفِ والْمَسْئُولِ أنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ كُرْسِيَّ الوَظِيفَةِ والمَنْصِبِ
أَشَدُّ خَطَرًا مِن كُرسِيِّ البَقَّالَةِ وبَقِيَةِ الْمَتاجِرِ. وهذا
يَدُلُّ عَلى أَنَّ النَّزاهَةَ
والأَمانَةَ في الأموالِ، ومُحارَبَةَ الفسادِ في ذلك، والحِفاظَ عَلى الْمالِ
العامِّ، وعَدَمَ الاعْتِداءِ عَلَيْهِ، مُسْئُولِيَّةُ الجَمِيعِ، مِمَّا يُوجِبُ
تَعاوُنَ أَفرادِ الْمُجْتَمَعِ ومَسْئُولِيهِ في ذلك. اللَّهُمَّ
اكْفِنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرامِكَ، وأغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ، واستَعْمِلنا في طَاعَتِك، وثَبِّتْنا على دَينِك، وارزقْنَا
الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا، وخَلِّصْنا مِن حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في
الحلالِ مِن رِزقِك وتوفَّنَا مُسلِمِين وألْحِقْنا بالصَّالِـحينَ، اللهُمَّ
احفظْنا بالإِسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإِسلامِ قاعدِين واحفظْنا بالإِسلامِ
راقدِين ولا تُشْمِتْ بِنا أَعداءَ ولا حَاسِدِينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ
الْمُسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على الْمُسلمينَ رحمةً عامَّةً
وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ الْمُسلمين على
كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ
الْمُسلِمِين، واجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً
وقوَّةً واحدةً على مَنْ سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا
عزيزُ، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون
عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل
الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ
يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ لها، وأَعِذْهَا من شرِّ
الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك،
وأيِّدْهم بتأييدِك، واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ
الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمُسلِمينَ والْمُسلِماتِ
والْمُؤمِنينَ والْمُؤمِناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ
الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|