لِلْأَحْفَادِ:
كَيْفَ تُصَانُ نِعْمَةُ هَذِهِ الْبِلَادِ؟
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ ؛ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لَكُمْ وَلِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ ؛ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَمَيَّزَتْ بِهِ هَذِهِ الْبِلَادُ الْمُبَارَكَةُ : نِعْمَةَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، تَحْتَ رَايَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَوَحْدَةِ الصَّفِّ ، وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ بِالْمَعْرُوفِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا مَا أَمَرَ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَدَعَا إِلَيْهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ تَعَالَى : ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى :﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا» .
فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةَ :
الْأُولَى : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَتُفْرِدُوهُ بِعِبَادَتِهِ مَعَ عَمَلِ طَاعَاتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، لَا شِرْكًا أَكْبَرَ كَصَرْفِ الْعِبَادَةِ أَوْ بَعْضِهَا لِغَيْرِهِ ، كَالَّذِينَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ بِالْأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ ، أَوْ يَنْذُرُونَ وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَا شِرْكًا أَصْغَرَ؛ كَالَّذِينَ يَحْلِفُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، إِمَّا بِالنَّبِيِّ أَوْ بِالْأَمَانَةِ أَوْ بِحَيَاةِ أَبْنَائِهِمْ ، وَكَالَّذِينَ يُرَاؤُونَ ، فَيَتَصَدَّقُونَ وَيُنْفِقُونَ وَيَعْمَلُونَ مِنْ أَجْلِ مَدْحِ النَّاسِ وَثَنَائِهِمْ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ أَيْ : تَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَتَتَّبِعُوا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « وَلَا تَفَرَّقُوا » ، أَيِ : اجْتَمِعُوا عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا . وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى وَاقِعِنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ؛ وَجَدْنَا أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدْ تَحَقَّقَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ ، فَكَانَتْ ثَمَرَتُهَا : أَمْنًا وَاسْتِقْرَارًا ، وَوَحْدَةً وَائْتِلَافًا ، وَرُغْدَ عَيْشٍ وَطُمَأْنِينَةً .
وَمِمَّا لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ فِيهِ ؛ أَنَّ الْأَمْنَ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ الْفَوْضَى ، وَالْوَحْدَةَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ التَّنَازُعِ ، وَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ النِّعْمَةَ أَدْرَكَ قِيمَتَهَا .
انْظُرُوا إِلَى أَوْطَانٍ مَزَّقَتْهَا الْفِتَنُ ، وَبِلَادٍ أَضَاعَهَا التَّفَرُّقُ ، كَمْ أُرِيقَ فِيهَا مِنْ دِمَاءٍ ، وَانْتُهِكَتْ فِيهَا مِنْ حُرُمَاتٍ ، وَضَاقَتْ عَلَى أَهْلِهَا مَعَايِشُهُمْ ، وَكَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ .
فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ مَسْؤُولِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا : صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً . وَذَلِكَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ بِالْمَعْرُوفِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يُفَرِّقُ الصَّفَّ أَوْ يُثِيرُ الْفِتَنَ . قَالَ تَعَالَى : ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى أَمْنِ الْبِلَادِ وَاسْتِقْرَارِهَا مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ عِبَادَةٌ وَقُرْبَةٌ نَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَهَذِهِ الْبِلَادُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ تَحْتَضِنُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَشَاعِرَ الْحَجِّ ، فَأَمْنُهَا نِعْمَةٌ كُبْرَى يَهْتَمُّ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَكَمَا أَنَّ لِهَذِهِ الْبِلَادِ مَكَانَةً دِينِيَّةً عَظِيمَةً ، فَإِنَّ لَهَا مَكَانَةً حَضَارِيَّةً وَاقْتِصَادِيَّةً وَرِيَادَةً عَالَمِيَّةً ، يَشْهَدُ بِهَا الْقَاصِي وَالدَّانِي ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ ثُمَّ بِمَا وُفِّقَ إِلَيْهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ جُهُودٍ مُخْلِصَةٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ . قَالَ تَعَالَى : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَاءِ الْوَطَنِ لَا تَكُونُ بِالشِّعَارَاتِ ، بَلْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَوْلِ النَّافِعِ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ . فَكُلٌّ مِنَّا عَلَى ثَغْرٍ : الْمُوَظَّفُ فِي عَمَلِهِ ، الْمُعَلِّمُ فِي مَدْرَسَتِهِ ، الطَّالِبُ فِي دِرَاسَتِهِ ، وَالتَّاجِرُ فِي مَتْجَرِهِ ، وَالْكُلُّ مَسْؤُولٌ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ بِإِخْلَاصٍ .
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، وَاشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغَفْلَةَ وَالتَّفْرِيطَ ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُبَدِّدُ النِّعَمَ وَتَسْتَجْلِبُ النِّقَمَ .
اللَّهُمَّ احْفَظْ بِلَادَنَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَاجْعَلْهُمْ نُصْرَةً لِدِينِكَ ، وَحِمَايَةً لِبِلَادِكَ ، وَخِدْمَةً لِعِبَادِكَ ، اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَتَنَا عَلَى الْحَقِّ ، وَوَحِّدْ صُفُوفَنَا عَلَى الْهُدَى ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . اللَّهُمَّ أَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا ، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أقم الصلاة .