الدَّاعِي لاِسْتِخْدَامِ الذَّكَاءِ الاصِّطِنَاعِيِّ
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ ؛ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لَكُمْ وَلِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، أَنْ عَلَّمَنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ ، وَيَسَّرَ لَنَا مَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَشْهَدُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، مِنْ تَطَوُّرٍ فِي الِاخْتِرَاعَاتِ ، وَتَقَدُّمٍ فِي التِّقْنِيَاتِ ، وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِالذَّكَاءِ الِاصْطِنَاعِيِّ ، الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ بِأَنَّهُ مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ، يَقُولُ ابْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، عِنْدَ كَلَامِهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : وَمِنْهُ جَوَازُ اسْتِخْدَامِ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ لِمَصَالِحِنَا ؛ لِأَنَّهُ مُسَخَّرٌ لَنَا ، فَإِذَا كَانَ مُسَخَّرًا لَنَا ؛ فَلَنَا أَنْ نَنْتَفِعَ بِهِ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا .
فَالذَّكَاءُ الِاصْطِنَاعِيُّ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي تَسْتَحِقُّ وَتَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ ، وَمِنْ شُكْرِهَا : اسْتِخْدَامُهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ ، مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَخْدِمُ مَصَالِحَهُمْ ، كَالطِّبِّ وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَحْتَاجُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُقَابِلَ نِعَمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ وَسُوءِ الِاسْتِخْدَامِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُنْشَرُ فِي بَعْضِ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ ، نَتِيجَةَ اسْتِخْدَامِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ فِيمَا لَا يُرْضِيهِ ؛ كَالتَّزْوِيرِ وَالتَّزْيِيفِ وَتَرْوِيجِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَالِافْتِرَاءِ ، وَانْتِحَالِ الشَّخْصِيَّاتِ ، وَنَشْرِ الشَّائِعَاتِ ، وَالْإِضْرَارِ بِالْأَبْرِيَاءِ ، وَالتَّقَوُّلِ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَنَسْبِ بَعْضِ الْفَتَاوَى إلَيْهِمْ وَهُمْ مِنْهَا بُرَآءُ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَمِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ :
﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ ، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ :
﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ .
فَالذَّكَاءُ الِاصْطِنَاعِيُّ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - مِنَ النِّعَمِ إِذَا اسْتُخْدِمَ فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَيَخْدِمُ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَكِنَّهُ مِنَ النِّقَمِ الْعَظِيمَةِ ، وَالشُّرُورِ الْخَطِيرَةِ عِنْدَمَا يُسْتَخْدَمُ لِتَرْكِيبِ مَقَاطِعَ لَا أَصْلَ لَهَا ، وَتَلْفِيقِ صُوَرٍ لَا وَاقِعَ لَهَا ، وَصِنَاعَةِ أَصْوَاتٍ لَا أَسَاسَ لَهَا ، وَقَالَ فُلَانٌ ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ ، وَأَفْتَى فُلَانٌ ، وَهُوَ لَمْ يُفْتِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكَذِبِ الْعَظِيمِ ، وَالِافْتِرَاءِ الْمُبِينِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ » ، « يَخْرُجُ مِمَّا قَالَ » أَيْ : يَتُوبُ وَيَسْتَحِلُّهُ مِمَّا قَالَ فِيهِ ، وَ« رَدْغَةُ الْخَبَالِ » ، عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ وَصَدِيدُهُمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ .
فَمَا تَعْمَلُ وَمَا تَنْشُرُ وَمَا تَقُولُ وَمَا تَسْتَخْدِمُ ، عَبْرَ تِقْنِيَّاتِ الذَّكَاءِ الِاصْطِنَاعِيِّ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَكَ ، أَوْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْكَ ، وَكَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي كُلِّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يَقْرَأُ أَوْ يُرْسِلُ ، خُصُوصًا فِي زَمَنِ الْفِتَنِ ، وَتَضَارُبِ الْأَقْوَالِ ، وَكَثْرَةِ الْوَسَائِلِ ، وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ » .
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، وَاسْتَعْمِلُوا النِّعَمَ فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ التِّقْنِيَةُ سَبِيلًا لِلْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَا يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى ؛ وَمِنْ أَخْطَرِ ذَلِكَ ؛ الِافْتِرَاءُ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَبَثُّ الْفَتَاوَى الْمَكْذُوبَةِ عَلَيْهِمْ ، أَوْ تَرْكِيبُ صُوَرِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » .
أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَجْعَلَنَا جَمِيعًا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ، لَا ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ ، وَيَرْزُقَنَا الْفِقْهَ فِي هَذَا الدِّينِ ، وَيُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا وَيَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا ، وَيَزِيدَنَا عِلْمًا وَهُدًى وَإِيمَانًا وَيَقِينًا إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُدِيمَ عَلَى بِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْإِيمَانَ ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ ، وَرَغَدَ الْعَيْشِ وَسَعَةَ الْأَرْزَاقِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذِهِ الْبِلَادَ دَارَ تَوْحِيدٍ وَسُنَّةٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
اللَّهُمَّ احْفَظْ وَوَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا ، وَأَعِنِهُمْ عَلَى مَا حَمَّلْتَهُمْ ، وَاجْعَلْهُمْ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَارْزُقْهُمُ البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الحَقِّ وَتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ .
عِبَادَ اللهِ :
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فَاذْكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .