وَقَفَاتٌ
مَعَ قَوْلِهِ تَعالَى: ( وَإِذَا خَاطَبَهُم الجاهِلُونَ قَالُوْا سَلَامًا )
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبَادَ الله: اتَّقُوا
اللهَ تَعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ صِفَاتِ عِبادِ الرَّحمَنِ، مَا أَخْبَرَ
اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: (
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
قَالُوا سَلَامًا )، فَأَخْبَرَ
اللهُ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا: أَيْ
بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَوَاضُعٍ، وَبِلَا تَكَلُّفٍ وَتَصَنُّعٍ. هَذَا هُوَ مَعْنَى الهَوْنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ.
ولَيْسَ
الْمُرادُ بِالـهَوْنِ هُنَا: مَشْيَ الْمُرائِينَ والْمُتَزَيِّنِينَ
لِلناسِ وَالْمُتَمَسٍكِنِينَ، فَإِنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم،
كانَ إذا مَشَى أَسْرَعَ،
وَكانَ يَتَقلَّعُ، أيْ يَرْفَعُ
قَدَمَه عَن الأَرْضِ إذا مَشَى، وَكانَ يَتَكَفَّأُ، كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ
صَبَبَ، كَمَا وَصَفَ ذَلك الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. هَذَا هُوَ الْمُرادُ بِالـهَوْنِ: السَّكِينَةُ والوَقَارُ
والتَّواضُعُ والخُضُوعُ للهِ. يَمْشُونَ مَشْيًا سَالِمًا
مِنْ الكِبْرِ والفَخْرِ والخُيَلاءِ والْمَرَحِ، قال تعالى: ( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). وقال رسولُ اللهِ صلى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( مَنْ
تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ وَاخْتَالَ فِي مَشْيَتِهِ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ
غَضْبانٌ ).
وَمِنْ
صِفاتِ عِبادِ الرَّحمَنِ في الآيَةِ، قُوْلُهُ: ( وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) أيْ:
إذا تَكَلَّمَ
فِيهِمْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ فِيهِ جَهْلٌ وَسَفَهٌ، لَمْ يُقابِلُوا الجَهْلَ بِجَهْلٍ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا
يُقابِلُونَهُ بِالكَلَامِ الطَّيِّبِ الدَّالِّ عَلَى الحِلْمِ وَسُمُوِّ
النَّفْسِ والإحْسانِ والنُّصْحِ وَالشَّفَقَةِ
والرَّحْمَةِ بِذلِكَ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا مِنْ أَحْسَنِ
الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِها.
والنَّاسُ في
مُقابَلَةِ مَنْ أَساءَ إلَيْهِمْ بِالكَلامِ أَرْبَعَةُ أَقْسامٍ:
القِسْمُ
الأوَّلُ: مَنْ يُقابِلُ الجَهْلَ بِجَهْلٍ أَشَدَّ مِنْهُ، وَهَذِهِ مِنْ أَسْوَأِ الصِّفاتِ.
القِسْمُ
الثانِي: مَنْ يُقابِلُ الجَهْلَ بِجَهْلٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُخالِفٌ لِمَا
أَرْشَدَ إِلَيْهِ الشارِعُ الحَكِيمُ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
القِسْمُ
الثالِثُ: مَنْ يُقَابِلُ الجَهْلَ والإِساءَةَ اللَّفْظِيَّةَ بِالسُّكُوتِ
وَعَدَمِ الرَّدِّ.
وَهَذِهِ
صِفَةٌ طَيِّبَةٌ، وَتَدُلُّ عَلَى حِلْمِ الإنسانِ
وَصَبْرِهِ وَرَزَانَتِهِ وَعَدَمِ انْفِعالِهِ.
رَوَى أَبُو
داوُدَ: ( أَنَّ رَجُلًا سَبَّ أَبَا بَكْرٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ،
وَرَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالِسٌ، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ،
ثُمَّ سَبَّهُ فِي الثانِيَةِ،
فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ سَبَّه فِي الثالِثَةِ، فرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو
بَكْرٍ، فَقامَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلم وَخَرَجَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَال لَه النبيُّ
صلى اللهُ عليه وسلم: ( مازالَ مَلَكٌ يَذُبُّ عَنْكَ حَتَّى رَدَدْتَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ حَضَرَ الشَّيْطانُ، وَمَا كَانَ لِيَ أَنْ
أَجْلِسَ وَقَدْ حَضَرَ الشيطانُ ).
فَالسُّكُوتُ طَيِّبٌ، وَفِيهِ السَّلَامَةُ،
وَيَمْنَعُ شَرًّا كَثِيرًا، وَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ دِفاعُ الْمَلَائِكَةِ، مَا
لَمْ يَكُنْ الرَّدُّ لِلْمَصْلَحَةِ والنُّصْحِ وَبَيَانِ الحَقِّ، وإِزالَةِ
الإشْكالِ، وإِنْكارِ الْمُنْكَرِ. ويُذْكَرُ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيزِ كانَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ، فَوَطِئَ قَدَمَ رَجُلٍ كانَ
يَطُوفُ بِجانِبِهِ، فَقالَ الرَّجُلُ لِعُمَرَ: أَأَنْتَ حِمارٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ:
بَلْ أَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيزِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
القِسْمُ الرابِعُ: مَنْ يُقابِلُ الجَهْلَ والإساءَةَ بِالإحسانِ،
وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَكْمَلُ الصِّفاتِ، وَهِيَ أَنْ تُقابِلَ مَنْ جَهِلَ
عَلَيْكَ بِالإحسانِ إِلَيْهِ والدُّعاءِ لَهُ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا يَنَالُها كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا
يَنَالُهَا الْمُؤْمِنُونَ الكُمَّلُ.
يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ،
فَقالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ( اللَّهُمَّ إِنْ كانَ
صادِقًا فَاغْفِرْ لِي، وَإِنْ كانَ كاذِبًا فَاغْفِرْ لَه ).
ولَيْسَتْ
هَذِهِ الخَصْلَةُ خاصَّةً بِمَنْ أَساءَ إليْكَ بِالكَلامِ، بَلْ حَتَّى مَنْ
أساءَ بِفِعْلِهِ، قال تعالى: ( وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ). وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( تَحَدَّثَ
عَنْ نَبِيٍّ مِن الأنْبِياءِ آذاهُ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَسْلِتُ الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
قال
ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فَي كَلَامِهِ عَنْ هذا الحَدِيثِ: تَضَمَّنَ هذا الدُّعاءُ أَرْبَعَ مَقامَاتٍ مِنْ مَقاماتِ
الإحسانِ:
الْمَقامُ
الأَوَّلُ: أنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ.
الْمَقامُ الثاني:
أنَّه اسْتَغْفَرَ لَهُمْ.
الْمَقامُ
الثالِثُ: أَنَّهُ اَعْتَذَرَ لَهُمْ فَقَالَ:
( فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ).
الْمَقامُ
الرابِعُ: أَنَّه قال: ( قَوْمِي ) فنَسَبَهُمْ
إلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ.
فَيَنْبَغِي
لَنَا يا عِبادَ اللهِ أَنَّ نَتَاَمَّلَ مِثْلَ هذهِ الأَدِلَّةِ والْمَواقِفِ،
خُصُوصًا فِي هذا الزَّمانِ الذي كَثًرَتْ فِيهِ الخُصُومَاتِ، وانْتَشَرَت فِيهِ
العَدَاوَةُ والبَغْضاءُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، وَأَصْبَحَ الْمسلمُ
يَهْجُرُ أَوْ يُعادِي أخاه أَوْ قرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ جارَهُ، لِأَتْفَهِ
الأسبابِ.
اللَّهُمَّ
اهْدِنا لِأَحْسَنِ الأخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ
عَنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أنْتَ، اللهم آتِ نُفُوسَنا
تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها وَمَوْلاها، اللهُمَّ
خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ
تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ،
غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ
أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ
لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً
لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين
الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ
بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ
سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا
بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم
البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|