ثَوابُ
الْمُجاهَدَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد اللهِ: اتقُوا اللهَ تعالَى،
وجاهِدُوا أَنْفُسَكُم في ذاتِهِ، واعْلَمُوا أَنَّ الجنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكارِهِ،
والنارَ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ ﴾، وَقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَه في اللهِ ).
وَمُجاهَدَةُ النَّفْسِ تَتَفاوَتُ، وَثَوَابُها عِنْدَ اللهِ
يَتَفَاوَتُ، عَلَى حَسَبِ عِظَمِ العَمَلِ وَدَوَاعِيهِ، وَقُوَّةِ الصَّبْرِ والْمُصابَرَةِ
فِيهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ الأدِلَّةُ عَلَى ذلك:
فَمِنْ ذلكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالعَقِيدَةِ: قال
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( بَدَأَ
الإسلامُ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرباءِ
). لِأَنَّ أَوَّلَ ما يُحارَبُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الفِتَنِ في عَقِيدَتِهِ،
وَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ الفِتْنَةُ، كُلَّمَا كَثُرَ الدُّعاةُ إلى الكُفْرِ
والشُّبُهاتِ والبِدَعِ، فَيَكُونُ أَجْرُ الْمُتَمَسِّكِ بِعَقِيدَتِهِ عَظِيمًا.
فَيَتَعَيَّنُ
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعَظَّ عَلَى العَقِيدَةِ والسُّنَّةِ بِالنَّواجِذِ،
وأَنْ يَهْتَمَّ بِالتَّوْحِيدِ والحَذَرِ مِن الشِّرْكِ وَوَسائِلِهِ، وَلُزُومِ
السُّنَّةِ والحَذَرِ مِن البِدَعِ، أَكْثَرَ مِن اهْتِمامِهِ بِطَعامِهِ
وَشَرابِهِ.
وَيَجِبُ
عَلَى العُلُماءِ والدُّعاةِ عِنْدَ اشْتِدادِ الفِتَنِ، تَكْثِيفُ الدُّرُوسِ
والخُطَبِ والْمُحاضَراتِ والكَلِماتِ، فِي مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَا
عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، وأَنْ يَكُونَ لَها النَّصِيبُ الأَكْبَرُ في
مَناشِطِهِمْ. وَيَنْبَغِي للمسلِمِينَ عُمُومًا، أَنْ يُجاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ في
حُضُورِها، والاسْتِفادَةِ مِنْها، لِأَنَّ ذلكَ أَعْظَمُ الجِهادُ في سَبِيلِ
اللهِ.
وَمِنْ الأُمُورِ التي يَعْظُمُ
الأَجْرُ فِيها، لِعِظَمِ مُجاهَدَةِ النَّفْسِ فِيها: ما وَرَدَ فِي قَوْلِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )،
ولِلطَّبَرانِي: ( عِبَادَةٌ فِي الهَرْجِ
والفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ ) لِأَنَّ الناسَ في الفُرْقَةِ
والاخْتِلافِ والفِتَنِ يَنْساقُونَ
وَراءَهَا، وَيُتابِعُونَ أَخْبارَها وَيَغْفَلُونَ عَن العِبادَةِ، وَتَنْشَغِلُ
قُلُوبُهُمْ وَأَبْدانُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ عَنْ الذِّكْرِ والتِّلَاوَةِ
والصِّيامِ والقِيامِ والصدَقَةِ والدَّعْوَةِ، والأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
والنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَصارَ ثَوْابُ العِبادَةِ فِي الفِتَنِ أَعْظَمَ
مِنْ ثَوابِها وَقْتَ السَّلامَةِ والأَمْنِ والطُّمَأْنِينَةِ، وَإِقْبَالِ
الناسِ عَلَى اللهِ.
وَمِنْ الأُمُورِ
التي يَعْظُمُ الأَجْرُ فِيها، لِعِظَمِ مُجاهَدَةِ النَّفْسِ فِيها: ما
يَتَعَلَّقُ بِصَلاةِ اللَّيْلِ، لِأَنَّها تُؤَدَّى وَقْتَ النَّوْمِ والراحَةِ
والسُّكُونِ، وَلَذَّةِ الفِراشِ، قال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، وَسُئِلَ رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: أَيُّ الصلاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الفَرِيضَةِ؟ فقال: ( صَلَاةُ اللَّيْلِ ).
وَمِنْ ذلِك:
قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( الطَّاعِمُ
الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ ). وَمَا ذاكَ إلَّا
لِأَنَّ فِتْنَةَ الْمالِ شَدِيدَةٌ عَلَى صاحِبِهِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ
عليه وسلم: ( إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الأَقَلُّونَ
يَوْمَ القِيامَةِ )، أَيْ أَنَّ أصحابَ الغِنَى هُمْ أَقَلُّ الناسِ
حَسناتٍ، لِأَنَّ الْمالَ يُغْوِي صاحِبَه، وَيُلْهِيهِ، وَفِي الغالِبِ يُوقِعُهُ
فِي الحَرامِ لِأَنَّه لَا يَجِدُ مَا يُعِيقُهُ عَنْ تَلْبِيَةِ طَلَباتِه،
فَصارَ الغَنِيُّ التَّقِيُّ الْمُتَواضِعُ الذي يَلْزَمُ حُدُودَ اللهِ مَهْمَا
رَأَى مِنْ الْمُغْرِياتِ وَيَتَحَرَّى الكَسْبَ الحَلَالَ، وَيُؤَدِّي زكاةَ
مالِهِ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ، وَيَتَفَقَّدُ أَحْوالَ الضُّعَفَاءِ،
وَيَتَقَرَّبُ إلى اللهِ بِمالِهِ وَجَاهِهِ أعْظَمَ أَجْرًا مِنْ غَيْرِهِ.
لِقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلم: ( نِعْمَ
الْمالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ: وَمِنْ
الأُمُورِ التي يَعْظُمُ الأَجْرُ فِيها، لِعِظَمِ مُجاهَدَةِ النَّفْسِ فِيها:
كَظْمُ الغَيْظِ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى العُقُوبَةِ وإنْفاذِ الغَضَبِ، قالَ رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم: ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا
وَهُوَ قادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه، دَعَاهُ اللهُ عَلَى
رُؤُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَه فِي أَيِّ الحُوْرِ شاءَ ).
ومن ذلك: عُقُوبَةُ الزَّانِي، فَإِنَّها
تَتَفاوَتُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي، فَالبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ
عامًا، وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ بِالحِجارَةِ حَتَّى الْمَوْتَ، مَعَ العِلْمِ
أَنَّ الجَرِيمَةَ واحِدَةٌ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ العُقُوبَةُ، لِأَنَّ الْمُحْصَنَ
عِنْدَهُ مَا يُعِفُّهُ عَنْ الزِّنَا. وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي الثَّوَابِ،
فَإِنَّ مِن السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُم اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ
إلَّا ظِلُّهُ: ( رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ
مَنْصِبٍ وَجَمالٍ )، أيْ دَعَتْهُ لِنَفْسِهَا لِيَفْجُرَ بِهَا،
وَلَكِنَّه كانَ قَوِيَّ العِفَّةِ، طاهِرَ العِرْضِ ( فَقَالَ
إِنِّي أَخافُ اللهِ ) فَهُوَ رَجُلٌ ذُو شَهْوَةٍ، والدَّعْوَةُ
التي دَعَتْهُ إِلَيْها هذه الْمَرْأَةُ تُغْرِيهِ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّها هِيَ
التي طَلَبَتْهُ، والْمَكانُ خالٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، وَهِيَ جَمِيلَةٌ، وَذَاتُ
مَنْصِبٍ، أَيْ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخْلُوقِينَ، وَلَكِنَّه قال إِنِّي
أَخافُ اللهَ، فَهذَا الرَّجُلُ تَهَيَّأَتْ لَه جَمِيعُ دَوَاعِي الزِّنَا،
فَامْتَنَعَ خَوْفًا مِن اللهِ!!! فَصارَ ثَوَابُهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ.
فَأَيْنَ الذي يَبْذُلُ الغالِي والنَّفِيسَ مِنْ أَجْلِ تَتَبُّعِ العَوْراتِ
والوُقُوعِ فِي الفَواحِشِ نَعُوذُ بِاللهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ: وَحاسِبُوا
أَنْفُسَكُمْ، وَلَا تُلْهِيَنَّكُمْ الدنيا وَفِتْنَتُها عَنْ الأَمْرِ الذي
خُلِقْتُمْ مِنْ أَجْلِهِ، وَحاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وابْذُلُوا الأسبابَ التي
يَقْوَى بِها إِيمانُكُم، وَتَصْلُحُ بِها حالُكُمْ مَعَ اللهِ.
اللَّهُمَّ
آتِ نُفُوسَنا تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها
وَمَوْلاها، اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ
مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ،
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ،
اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ،
اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ
بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك
الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ
مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا
قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ
الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم
بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنْصَارِ دِينِك، وَارْزقْهُم البِطَانةَ
الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119