الحَثُّ
عَلى تِلاوَةِ القُرْآنِ وتَدَبُّرِهِ والعَمَلِ بِما فِيهِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، واعْلَمُوا أَنَّه قَدْ وَرَدَ في
نُصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الأمْرِ بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ
والإكثارِ مِنْ ذلكَ، وَجاءَ في كِتابِ اللهِ الحَثُّ عَلَى التَدَبُّرِ
والتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الأَعْظَمَ والْمَطْلُوبَ الأَهَمَّ هُوَ
تَدَبُّرُ القُرآنِ وَفَهْمُهُ والعَمَلُ بهِ، فَإِنَّهُ بِذلكَ تَنْشَرِحُ
الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ القُلُوبُ، وتَحْصُلُ لَهَا الهِدايَةُ والشفاءُ مِنْ
جَمِيعِ عِلَلِها، خُصُوصًا ما يَتَعَلَّقُ بِالعَقِيدَةِ، قال تَعالَى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم
مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ). وَمَنْ تَأَمَّلَ هَدْيَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ فِي قِراءَتِهِ
لِلْقُرْآنِ عَرَفَ مَدَى عِنَايَتِهِ بِذلِكَ، قالَ حُذَيْفَةُ رضيَ اللهُ عَنْه:
( قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةَ ثُمَّ النِّساءَ فَقَرَأَهَا
ثُمَّ آلَ عِمْرانَ فَقَرَأَهَا. يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إذا مَرَّ بِآيَةٍ فِيها
تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذا مَرَّ بِآيَةٍ فِيها تَعَوُّذٌ تَعَوَّذَ... )، وَقَالَ
عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ: قالَ لِي رسولُ اللهِ صلى اللهُ
عليه وسلم: ( اِقْرَأْ عَلَيَّ القُرْآنَ )، فَقُلْتُ:
يَا رسولَ اللهِ، أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: ( إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي )، فَقَرَأْتُ
عَلَيْهِ سُورَةَ النِّساءِ حَتَّى إذا جِئْتُ إلى هذِهِ الآيَةِ: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا )، فَإِذا عَيْناهُ تَذْرِفانِ. وَقالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ
اللهُ عَنْه: قامَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُها حَتَّى
أَصْبَحَ: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
وَالأَسْبابُ الْمُعِينَةُ
عَلَى الخُشُوعِ والتَّدَبُّرِ يَا عِبادَ اللهِ كَثِيرَةٌ:
مِنْها: إِخْلاصُ النِّيَّةِ للهِ تَعالَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمُسْلِمُ
بِقِراءَتِهِ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ تَعالَى والتَّزَوُّدَ مِن الحَسَناتِ.
وَمِن
الأسْبابِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّدَبُّرِ والخُشُوعِ: أَنْ يَشْعُرَ
القارِئُ أَنَّ الكَلَامَ الْمَتْلُوَّ هُوَ كَلَامُ اللهِ، لَفْظُهُ وَمَعْناهُ،
وَأَنَّه أَحْسَنُ الكَلَامِ وَأَصْدَقُ الحَدِيثِ، وَأَنْ يَشْعُرَ بِأَنَّ اللهَ
يُخَاطِبُهُ.
وَمِنْ
الأسْبابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ: مَعْرِفَةُ
مَعانِيهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الاتِّعاظُ بِمَا فِي القُرْآنِ دُونَ فَهْمِهِ،
قالَ تَعالَى: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ )، وَقالَ تَعالى: ( أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ).
وَلِذلِكَ كانَ السَّلَفُ يَحْرِصُونَ عَلَى تَعَلُّمِ
القُرآنِ أَلْفاظِهِ وَمَعانِيهِ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُونَ مِن
العَمَلِ بِالقُرْآنِ عَلَى مُرادِ اللهِ، فَإِنَّ العَمَلَ بِمَا لَا يُعْرَفُ
مَعْناهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، قالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ: ( حَدَّثَنَا مَنْ كانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصحابِ النبيِّ صلى اللهُ
عليه وسلم، أَنَّهُمْ كانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم
عَشْرَ آياتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي العَشْرِ الأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا
فِي هَذِهِ مِن العِلْمِ وَالعَمَلِ، قَالُوا فَعَلِمْنَا العِلْمَ والعَمَلَ ).
والْمُرادُ بِالتَّفْسيرِ: هُوَ تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِالطَّرِيقَةِ السَّلَفِيَّةِ
الصَّحِيحَةِ، وهِيَ تَفْسِيرُ القُرآنِ بِالكِتابِ والسَّنَّةِ. ثُمَّ بِأَقْوالِ
الصَّحابَةِ، ثُمَّ بِمَنْ عُرِفَ بِالتَّفْسِيرِ مِنْ تَلامِيذِ الصَّحابَةِ،
ثُمَّ بِلُغَةِ العَرَبِ. وَلا يَعْنِي ذلكَ أَنَّه لا يُؤْجَرُ عَلَى مُجَرَّدِ
التِّلاوَةِ! بَلْ يُؤْجَرُ، وَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ، وَلكنْ لا
تَكْتَمِلُ هذه العِبادَةُ العظيمةُ إلَّا بِالفَهْمِ الصحيحِ، والتَّطْبِيقِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ : اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ
الأَعْظَمَ مِن إِنزالِ القرآنِ هُوَ العَمَلُ بِهِ والتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ،
لَا مُجَرَّدُ إقامَةِ حُرُوفِهِ. وَلِذلِكَ كانَ خُلُقُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ
عليه وسلم القرآنَ. قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: ( مَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا هُوَ فَلَيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى القُرْآنِ ).
وَفِي التَّحْذِيرِ مِن
التَّجافِي عَنْ القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ العَمَلِ بِهِ، قال صلى
اللهُ عليه وسلم: ( رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ
أَتَيانِي ........ فَساقَ الحَدِيثَ .. وَفِيهِ: فَانْطَلَقَا
حَتَّى أَتَيَا عَلَى رَجُلٍ مُضْجَعٍ، وَإذَا آخَرُ قائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ،
وإذا يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رأسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ
الحَجَرُ هاهُنا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ، فَيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إلى
الرَّجُلِ حَتَّى يُصْبِحَ رأْسُهُ كَمَا كانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ
مِثْلَ ما فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الأُولَى... ) فَلَمَّا سَأَلَ عَنْه
النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم؟ قالَا: ( أَمَّا
الرَّجُلُ الذي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثلغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَهُوَ الرَّجُلُ
يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنامُ عن الصلاةِ الْمَكْتُوبَةِ).
وَفِي رِوايَةٍ قالَا: ( هذا رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ
القرآنَ فَنَامَ عَنْه باللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ في النهارِ ).
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ،
وَعَظِّمُوا كِتابَ رَبِّكُمْ وَاتْلُوهُ وُتَدَبَّرُوا آياتِهِ واعْمَلُوا بِمَا
فِيهِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ).
اللَّهُمَّ
اجْعَلْنَا لِكِتابِكَ مِن التَّالِينِ وَلَكَ بِهِ مِنْ العامِلِين، وَارْزُقْنَا
تِلاَوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى الوجهِ الذَّي يُرضِيكَ عَنَّا، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا يا
رب العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ
أَمْرِنا، وَأَصْلِحْ لِنَا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشِنا، وَأَصْلِحْ لِنَا
آخِرَتِنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادِنَا، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِنَا فِي
كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ
اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا وَخَيْرَ أَعَمَالِنَا خَوَاتِمَهَا
وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نلْقَاكَ فِيهِ، اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا
فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ
الْمُسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على الْمُسلمينَ رحمةً عامَّةً
وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ الْمُسلمين على
كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ
الْمُسلِمِين، واجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً
وقوَّةً واحدةً على مَنْ سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا
عزيزُ، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون
عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل
الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ
يا قويُّ يا مَتِين، اللهُمَّ احفظْ بَلادَنا
مِن كَيدِ الكَائدِينَ وعُدْوانِ الْمُعْتَدِينَ، اللهُمَّ
وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بِتَوفِيقِك، وأيِّدْهم بِتأَيِيدِك، وَاجْعلهم مِن أَنصَارِ
دِينِك، وارزقْهُم البِطَانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجَلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمُسلِمينَ والْمُسلِماتِ والْمُؤمِنينَ
والْمُؤمِناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|