موعظة للعقلاء في فصل الشتاء
الحمد لله مغير الأحوال ،
المتفرد بالبهاء والجلال ، المتحكم بالآجال ، كريم لا يبخل ، وحليم لا يعجل ،
الحكم حكمه ، والأمر أمره ، والملك ملكه ،
يسبح له بالغدو والآصال .
وأشهد
أن لا إله إلا هو الكبير المتعال ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ،
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الصحب والآل .
أما بعد ، معشر المسلمين :
أوصيكم
بوصية ربكم لكم ، تقوى الله U ، فهو القائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوى الله ـ عباد الله ـ } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً { . } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً { . } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً {.جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
في هذه
الأيام ، نعيش بداية فصل الشتاء ، حيث التغير الواضح في درجات الحراره ، فقد كنا
قبل أيام ، نعاني من شدة حرارة الجو ، ونبحث عن البرودة مستخدمين شتى الوسائل
والسبل ، وها نحن في هذه الأيام ، نعاني من برودة الجو ، فسبحان من غير الحرارة
إلى برودة ، والصيف إلى شتاء !
إن هذا
التغيير والإنتقال ـ أيها الأخوة ـ فيه دليل على أن لهذا الكون مدبر ومتصرف . مدبر
يدبر شؤونه ، ومتصرف يتصرف به ، وهو الله جل جلاله ، يقول سبحانه وتعالى : } إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ { .
فالعاقل
ـ أيها الأخوة ـ يتأمل في هذه السنة من سنن الله U ، فتكون له موعظة وعبرة ، ويتذكر عظمة الله سبحانه ، فالبرد الذي
كنا نتلذذ به قبل أيام ، هاهو نعد له العدة في فصل الشتاء ، ففي حلوله عبرة وموعظة
، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : (( اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ
أَكَلَ بَعْضِي بَعضاً، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ،
وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ
مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)) والحديث
رواه البخاري ـ يعني حديث صحيح .
فهذه
فائدة من فوائد هذا البرد ، لكي نتذكر تلك النار ، نتذكرها ونحن نحس بنفس من
أنفاسها ، فإذا كان هذا النفس فكيف بالله عليكم بما وراءه ، نعوذ بالله من النار .
ايها الأخوة :
إن بعض الناس ، ينزعج من برد الشتاء ، كما
يتضايق من حر الصيف ، ولا شك أن للشتاء وللصيف حكم ومصالح ينبغي للعاقل أن لا يغفل
عنها ، ففي الشتاء أشياء لا يمكن أن توجد في فصل الصيف ، وفي الصيف أشياء لا يمكن
أن توجد في فصل الشتاء ، فلوكان الوقت صيفا لفاتت مصالح الشتاء ، ولوكان الوقت
شتاء لفاتت مصالح الصيف .
ايها الأخوة :
إن
هذا الشتاء ببرودته ، الذي يتضجر منه كثير
منا ، كان السلف رحمهم الله ، يفرحون به ، ويستبشرون بحلوله ، نعم أيها الأخوة ،
كان السلف يفرحون بالشتاء غير مبالين ببرودته ، وهم لا يجدون ما يدفعون به لسعت
برده ، ونحن أو بعضنا يتضجر ويتأفف منه ، وعنده جميع سبل الوقاية منه ، وإن أعجبه
شئ فيه ، فلا هناك غير النوم ، حيث طول الليل ، فلا يعجبه في الشتاء إلا طول الليل
، لينام الساعات الطوال فيه ، أو ليحصل على قدر كبير من السهر ليروح عن نفسه
المريضة .
فإن
كان هذا الشتاء ، أو ما يجعلنا نحب الشتاء ، فلنتأمل لماذا السلف الصالح يفرحون
بالشتاء .
أخرج
الإمام أحمد في حديثٍ حسنٍ عن أبي سعيد الخدري tعن النبي e أنه قال: (( الشتاء ربيع المؤمن )) أخرجه
البيهقي، وزاد فيه: (( طال ليله
فقامه وقصر نهاره فصامه )) هذا هو الشتاء ، ربيع المؤمن ، ليس
لطول السهر أو لكثرة النوم ، إنما للقيام والصيام .
وفي الحديث عن النبي e : (( الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة ))، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : ( ألا أدلكم على الغنيمة الباردة
) قالوا : بلى , فيقول : ( الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء ) .
وروي عن ابن مسعود t قال : ( مرحبا بالشتاء
تنزل فيه البركة , ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام ) ، وعن الحسن
قال : " ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه " .
قال ابن رجب رحمه الله
: " قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف ولهذا بكى معاذ t عند موته ، وقال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر
وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
ايها الأخوة المؤمنون :
ومن فوائد الشتاء ، وهذا البرد الذي نكافحه بنعم
الله U ، تذكر أحوال إخواننا من المسلمين ، فإذا كنا
نلبس ما نريد ، فإن هناك من المسلمين ، من لا يجد ما يدفئ جسده ، فيذكرنا هذا
البرد بواجب عظيم ، أوله : شكر المنعم U على ما ننعم به يقول سبحانه : } وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
{ .
ومع شكرنا
لله ، نتفقد أحوال إخواننا حولنا ، فيوجد من هو بحاجة بيننا ، يوجد ـ أيها الأخوة
ـ من لا يستطيع أن يشتري ملابسا تقي جسده هذا البرد ، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب
الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .
اللهم
أيقضنا من رقدة الغافلين ، وأغثنا بالإيمان والليقين واجعلنا من عبادك الصالحين ،
وارحمنا برحتك يا أرحم الراحمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكرله على توفيقه
وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
.
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الأمور التي ينبغي التذكير بها في هذا البرد
، وفي فصل الشتاء ، ولعلنا نذكرها على سبيل الإختصار ما يأتي :
أولا
: المسح على الخفين ، فمن تيسير الله U على عباده ، أن أجاز المسح بدلا من الغسل ، يوما وليلة للمقيم ،
وثلاثة أيام بلياليها للمسافر .
ثانيا
: تهاون بعض الناس ، في قضية الوضوء ، ومن المعلوم أن إسباغ الوضوء في البرد ، من
كفارات الذنوب والخطايا .
ثالثا
: في فصل الشتاء ، تكثر الأمطار بإذن الله تعالى ، ويتهاون الناس بالخروج ، للنزهة
والفرجة ، ولا يبالي بعضهم بكثرة السيول ، والتعرض للصواعق ، وهذا لاشك من التفريط
وتعريض النفس للخطر .
رابعا
: الأطفال والخدم ، يحتاجون لمزيد من الإهتمام ، وكلكم راع وكل مسؤول عن رعيته .
خامسا
: وفي فصل الشتاء ، يشعل بعض الناس النار للتدفئة ، وكذلك المدافئ التي تعمل عمل
النار ، وقد يكون ذلك سببا من أسباب الإحتراق أو الإختناق ، والنبي e يقول في الحديث : (( إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فاطفئوها عنكم ))
وفي رواية (( لا تتركوا النار في
بيوتكم حين تنامون )) .
اسأل
الله U لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، ورزقا
واسعا ، وتوبة نصوحا ، إنه سميع مجيب .
اللهم
إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا ، وأن تنفس كروبنا ، وأن تستر عيوبنا ، وأن تسدد ديوننا
، وترحم موتانا ، وتشفي مرضانا ، وتعافي من ابتليته منا ، برحمتك يا أرحم الراحمين
.
اللهم
إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم آمنا في
أوطاننا واستعمل علينا خيارنا ، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك يا رب
العالمين .
اللهم
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { .
فاذكرو
الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون .